ها أنا شارد..في تفاصيل
الغياب-..قصيدة مثيرة للتأمل بقلم الشاعر التونسي الكبير -طاهر مشي-
النسيان هو الفناء الذي
يترصد الذاكرة،بينما الذاكرة هي ذروة سنام النضال الإنساني تجاه الفناء الذي يترصد
أنفاس الحياة فوق الأرض،قبل أن يودي بها الفناء الأخير إلى أرذل النسيان تحت
الثرى،ولذا لا تتخلق الذاكرة إلا في رحم النسيان،ولا تولد إلا على مهد منه،بينما
النسيان سياج أبدي مضروب حول كل جهات الذاكرة في متلازمة قدرية لا انفكاك لها ولا
تراتبية تحكم طرفيها،إنما سجال أزلي بين سطوة المحو وأحلام البقاء !.
وعليه نقول إن اجتراح
ذاكرة للأشياء هو الحيلة الإنسانية الأقدم لمجابهة النسيان، وهو جزء من صراع
الإنسان الأبدي مع الفناء بمختلف أشكاله وتجلياته،والتي يعد النسيان ضمن صورها
الأقسى،حتى ليبلغ به الحال أن يكون معادلا للموت ذاته،بل ربما عد الموت فناء رحيما
إذا ما قيس بمواجع النسيان وفادح خساراته في كثير من الأحيان .
وحين يكون العمل الإبداعي
هو الناهض بمهام الذاكرة فإنه حتما يتحرك ضمن إطارين اثنين : الإطار الفني،والإطار
التوثيقي، ويراوح بينهما بحرفية لا تكتفي بالأول فتكون محض إبداع لا أثر فيه لمكنون
الذاكرة،ولا تتماهى بالآخر فتكون مجرد وثائق متلبسة حللا فضفاضة من الإبداع لا
تمنحها شرعية الانتماء لمفهوم العمل الإبداعي الحقيقي .
هذه اللوحة الشعرية
النازفة تطرح قضية نفسية قد تكون نتاج تجربة شخصية للشاعر أو هي معالجة لقضية
ما..ربما هزت مشاعر الشاعر التونسي القدير طاهر مشي.. :
ها أنا شارد..في تفاصيل
الغياب
كل الأحلام رسمتها
في خارطة النسيان
يؤرقني ذلك الشرخ
مازال ينزف من ذاكرتي
عربد جرحي
وانشقت البسمة عن الشفاه
فمن يقاسمني الظلام
سأمضي وحيدا
كما كنت ملقى جريحا
على ناصية الوجع
فكيف أبوح
وأطرق باب النسيان الموصد
لا شيء ينقصني
فما تزال الأدران تسكن
أوردتي
ووجعي
يتمادى
يقودني إلى حافة الجنون
شاردا في تفاصيل الغياب
والشوق يلتهم نبضي
يدمر مملكتي
فتمضي الأيام
خوالي
من يقاسمني الوجع
والآه تلو الآه
كما الطوفان تجرفني غريبا
لا أعرف نفسي
ولا نفسي تعرفني
لا شيء ينقصني
قافية القصيدة مشردة
كما أحلامي الموؤودة
(طاهر مشي)
ربما يكون من اليسر بمكان
أن نتبين مدى انسجام النص مع حقيقة كونه ذاكرة انطلاقا من بنيته الشكلية وإطاره
الخارجي،على أن مقاربة تلك الحقيقة استنادا إلى حمولات النص ومضامينه،وانطلاقا من
عمقه أمرا ليس باليسير، والتوصل إليه يتطلب إيغالا فيما يسيجه ذلك الإطار الخارجي
بداخله من البنى اللغوية،وما تنطوي عليه من مضامين النص وطاقاته النفسية
والعاطفية،وما استطاع أن يؤويه إلى عوالمه من دلالات، إيحاءات وأبعاد،وما تمليه
عملية التذكر،ومدى حيوية تلك العملية إلى جانب الصهر الإبداعي لكل ذلك في قالب
النص الذي اضطلع بمهمة شاقة توثق للإبداع وتبدع للتوثيق لتثمر ذاكرة تختزل بداخلها
الشوارع ويمتزج فيها الزمان والمكان لتبقى شاهدا يتأبى على النسيان .
لم تخل القصيدة من بعض
الانزياحات الدلالية والصور البلاغية التي تناثرت هادئة بين الأبيات التي هذبها
الشاعر وأبدع في تطريزها..
كانت الصور تتسلسل طيعة
غير مصطنعة وكأنها زبدة لمخيض الوجع الذي شكلها على مقاس معين ليستسيغها القارئ
وهو يتتبع أبياتها بهدوء و..كأنه ينتظر مع الشاعر بصيصا من النور..
ومن البيت الأول تستوقفنا
الموسيقى بتأثيرها الفعال في بلورة الحس الجمالي لهذا النص معتمدة على تلك الأصوات
اللغوية المتناغمة لتُخرجَ ما اكتنف الحالة الشعورية المكتنزة على وتيرة واحدة لم
ينطفئ أوارها من أول حرف إلى آخر كلمة وهذا بطبيعة الحال لا يكون إلا بالإيقاع
الداخلي والخارجي الذي تؤسسه الحروف والكلمات وتشيده الدلالات والإيحاءات..
فطوبى للشعر بقلوب تعطي
الأدب لوحات من جمال متفرد.
نص استطاع أن يختزل
الكثير من محاور اللغة ويبقي المعنى في عمق هذه اللغة بالرغم من الوجع الظاهر على
النص،لكنه يحمل الكثير من الانزياح الذي يؤدي إلى تركيب الصورة الشعرية بزخم
كبير،بحيث يشعر المتلقي بعمق لحظة الألم التي كانت هي المحور في أناشيد الروح..
ان امتداد المعنى بقي في
عمق اللغة،وهذا ما جعل الصور الشعرية مشعة بأطياف مواسم الحزن كأنها سيمفونية
الصورة، والمتكاملة بشكل يعطي لخيال المتلقي مساحات واسعة من التأويل،لأن الرؤيا
التي كونت في محوره بقيت في عمق مسالك اللغة،ولأن الدلالة-أيضا- ترادفت مع
الاستعارة الذهنية للمدرك الحسي في تكوين الصورة الشعرية..
وقد استطاع الشاعر د-طاهر
مشي أن يحقق التوازن النفسي اللغوي وفق صيغة الحاضر الغائب حيث بقى الانزياح يثبت
الاستعارة مع البقاء على حركة الصورة الشعرية المتنقلة..وهذا جعل الصورة الشعرية
مركبة على قدر المشاعر النفسية داخل النص.أي أن بؤرة النص بقيت تشع منها وتنسق
شتات الرؤى..
نص عميق وموجع وبإيقاع
لغوي تصويري
..
ختاما أقول :
الشاعر التونسي الكبير طاهر مشي..شاعر باذخ الحرف..يعرف من أين يورد الشعر..يمتطي صهوة الحرف ويحلق
بالقصيد بأجنحةٍ من تميز..
طاهر مشي أراه وأؤمن بأنه علامة فارقة في عالم الشعر الفصيح على صعيد الشعراء العرب بشكل عام وعلى صعيد شعراء الفصيح في بلادنا (تونس التحرير)
له مني باقة من التحايا
المفعَمَة بعطر الإبداع..
محمد المحسن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق