الخميس، 12 ديسمبر 2019

في المقهى...قلم رشدي الخميري

في المقهى
جلس والامّة تجاوره..كل طاولة في المقهى لها حديثها لتجتمع كلّها في أذنيه فيعيش مع شعبه وحكاياته ويدوّنها فقد يخلو ذهنه من بعض ما يعيشونه وقد يغفل عن شيء هو واقع أمام ناظريه. المحامون وقضاياهم مع مدّعين أو متّهمين مع اختلاف قضاياهم وشكاويهم. الشغوفون بالرّياضة وكلّ بلاعبه او فريقه يتغنّي داعما او منتقدا أو محلّلا . متتبعو الشّؤون السّياسيّة والاجتماعيّة كلّ يدلي بدلوه في الحلقة إمّا ليبرز مواقف يتفوّق بها على غيره أو ربّما هي تحاليل من يهمّه أمر البلد بصدق فيعطي مواقف وحلولا يراها تخرجنا من "عنق الزّجاجة" . ووجد نفسه يتفاعل مع كلّ هذه المواضيع وتسيطر عليه رغبة في منازلة كل طاولة على حدة ظنّا منه أنّه يتفوّق عليهم معرفة ودربة في الحديث ورأى نفسه يفوقهم حنكة و دراية لذا هم في حاجة لسماعه وعدم التّلفّظ أمامه ولو بكلمة حتّى يسمح لهم هذا إن سمح لأيّ منهم هههه.. لأنّ هذا سيعود لتقييمه هو دون سواه . لكنّه لا يعرف أيا من هؤلاء .ولم يتعوّد التطفّل على غيره ولا ازعاج راحة الآخر خاصّة إن كان لا يعرفه. أحسست بعد ذلك أنّ حال المقهى هو حال مجلس قادتنا . و كأنّ كلّ منهم انغمس في حديث عن شهوته ورغبته بعيدا عمّا يعيشه البلد وشبّهت هذا الجالس إلى طاولة خلت إلاّ منه وقهوته بمن ترأس الجلسة وتجري الأمور بما لا يشتهي ولا يسمح لأنّه من المفروض أنّه هو محدّد المواضيع والحاسم فيها.. لكن هل الأمر كذلك؟ ويدخل المقهى معتوه طالبا قهوة وسيجارة ومقعدا بجواره فهل يقبل أو يرفض؟ ليتني أعرف الإجابة. كلّ ما يطلبه "صديقنا" هو أن يهنأ بهذا المقعد في هذا المكان بدون ازعاج فهو لم يعد يحفل بما يجري في باقي الطّاولات لأنّه سيبقى متفرّجا ولن يلومه احد إذ هو ليس إلاّ حريفا نأى بنفسه عن المشاكل و مسبّبيها ثمّ أنّ المجلس لم ينتظر ليعطيه الإذن بالجلوس وبداية الحديث... تعسّف المعتوه وجلس حذوه وصار يعربد ويأتي بما تثيره فيه الجلسة وحالته النّفسيّة الّتي قد تكون مضطربة آنذاك. في طاولة أخرى تهالك أحدهم على كرسيّ مسميّا أمّه الحنون وبدأ يشرك كلّ النّاس فيما يقول فهمت بعد ذلك أنّه سكران لا يمكنه الجمع بين حروفه ليكوّن جملة مفيدة. لكنّه مع ذلك فرض على النّاس سماعه واغتصب حريّة انفراد الأشخاص بأصحابهم أو بسماع أغنية أو الانزواء مع هواتفهم الجوّالة..ماهذا؟ لكنّ "صديقنا" بمثابة رئيس هذه الجلسة والمفروض أن يقرأ له حسابا وعلى صاحب المقهى أن يدير مقهاه بما يسمح له أن يحافظ على مكانته فقد يشار إليه بالإصبع وينعت بما يحطّ من مكانته وهيبته .ثمّ استدرك، "مالي لا أتصرّف وأكرم مقامي فأجعل المعتوه يستفيق من هيجانه ويترك جواري ويدخّن بعيدا عنّي وأجعل السّكران يلزم حدّه ؟" وأردف "وبعيدا عن ذلك لماذا لا يهبّ الجالسون ويعترفون لي بمقامي ؟ هل هنت لهذا الحدّ؟ أو هي المجالس عندنا يذلّ فيها العزيز؟ أم أنّ العزيز لا عزّة له في الأصل؟ هل أنا من يحدّد مواضيع الجلسة أم أنّ المواضيع تحدّد وفق ما يجري هنا وهناك في بلدي وعليّ أن استوعبها كلّها وهكذا أكون مسؤولا عنها كلّها برمّتها لأنّي وكّلت عليها لأتفاعل معها دون استثناء؟ "عذرا يا بلدي قد بيعت قضاياك واستهزئ بآلامك ..عذرا فقد صرت لعبة في متناول من هبّ ودبّ كأنّك اليتيم ومن حولك كمشة من خارقي القانون يريدون الاستئثار بميراثك لا تمنعهم إلاّ عصيّ بعض الّذين استيقضت هممهم وقرّروا الوقوف إلى جانبك..وعذرا يا بلدي لأنّي نسيت مقولة " إن لم تستح فافعل ما شئت" وهو حال من هم قائمون على البلد. ولكن عسى الآتي خير وعسى من بقي من رجالك يضربون بعصيّهم الصّلبة ضربة رجل واحد كلّ من أفسد علينا عيشنا. وعساي أجلس يوما في مقهى أعرف فيها كلّ النّاس وأشاركهم حديثا ليس فيه نزال ولا استعراض عضلات.
رشدي الخميري/ تونس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق