الخميس، 12 ديسمبر 2019

تنهيداتٌ سماويةٌ.... ...قلم ميلا عياري

.. تنهيداتٌ سماويةٌ فوقَ دربِك أيها  الراحلُ عنا والباقي فينا  ...
=====================

يقُولُ  : "هذا شتاءي الأخيرُ قد حلَّ
سأعبرُ حافي النبضِ بين ضفتيْ النقصانِ
فكلُّ الدروبِ توصلُ السنونو المهاجرةَ
 إلى أرضِ القيامةِ الجديدةِ " ..
لا يُمْلي علينا أسبابَ الرحيلِ
لئلا يَخْدشَ جدارياتِنا الرماديةِ .. وبلورَ مرايانا العتيقةِ
نتعلقُ بتلابيبِ ثوبِهِ القديمِ كالأعمارِ .. كي نستبقيَهُ
فتتمزقُ بين أيدينا ..
نتوسلُ .. نولولُ
نهرولُ كي نلحقَ بهِ ..
تتلجلجُ الكلماتُ حزينةً على شفاهِ المواسينَ :
" لقد قُضِيَ الْأَمْرُ .. فقد حفرتْ روحُهُ موطئاً لها في نأْيِ البعيدِ " ...
كانَ يحلقُ نحوَ السماءِ
وحيداً وحيداً كما جاءَ ..
يحْمِلُ في أعماقِ جيوبِهِ
خارطةَ الطريقِ .. ومفاتيحَ بواباتِ السحابِ .. وقناديلَ الضياءِ
حفنةَ ذكرياتٍ سُكَّريّةٍ .. آيةَ الكرسي والتهاليلَ  .. والصلواتِ والدعاءَ
تعاويذَ الجداتِ .. ومِجْمَرةَ البخورِ .. وياءاتِ النداءِ
عباءتَهُ البيضاءَ .. حقيبته.. والكراسات  .. وصورَ الأحفادِ  والأبناءِ ..
كانَ يحملُ وجعَهُ على كتفِهِ
ويمضي إلى ما لسنا ندري ..  وراءَ السترِ والخباءِ ..
وهو المريضُ الذي لم يشتكِ
حينَ أعياهُ الداءُ ..
وهو الطبيبُ الذي ذَوَى وخبا
 ولم يشفِه التضرعُ ولا الدواءُ ..

سلامٌ على روحِكِ أيها الخالُ المسافرُ إلى سرايا البعيدِ ، سلامٌ عليكَ أبا محمود كلما تشدقَ النرجسُ باسمِكِ ثلاثاً  ، سلامٌ على طيفِكِ الذي يضيءُ عتمتَنا  ملءَ صيعانِ الغيابِ ، سلامٌ على قلبِكِ الوريقِ الوارفِ نوراً  بينَ صفصافِ الأنهارِ وسنديانِ الجبالِ ..
سلامٌ على عينيكَ المسبلتينِ على ورقِ الخريفِ ، على نشيجِ ذكرياتِ العمرِ البخيلِ ، على ما مضى واندثرَ في جواريرِ الماضي بينَ فراقٍ ولقاءٍ ، وبينَ ضحكةٍ وبكاء ..
سلامُ على بسماتِكِ التي تملأُ الأزقةَ والزواريبَِ وملاعبَ الطفولةِ ، على أحاديثِك التي سَمَتْ بُخوراً على مجامرِ الغائبينَ ، على الكتبِ والمحابرِ والكراريسِ ، على الآلات والنوتاات  ، وعلى كلِّ شيءٍ ..
واحسرتاهُ على حكايةِ العمرِ  التي لم تكتملْ ، على الأغرودةِ التي تخلخلَ دوزانُها وانكسرَ على عتباتِها الوترُ ، على القصيدةِ التي هَوَّتْ قمرينِ على بوابات الغيابِ ، ذرفتْ وردتينِ ودمعتينِ وانزوتْ في ثيابِ الحدادِ ، على اللحنِ الجميلِ الذي انفلتَ من أسطرِ النوتاتِ ولم يستمرْ ..
أتذكرُ وجوهَ الراحلينَ الكاسفةَ المُطوقةَ برهبةِ الصمتِ قبلَ الرحيلِ الكبيرِ فيسقطُ عنقودُ كلامٍ من بين شفتيَّ , يرددُ بعضَ كلماتِهم المشتتةِ سيلَ رمادٍ , ويرتلُ صلاتَهُم الأخيرةَ كوصايا النهرِ عندما غابوا في تعاريجِ أروقةِ المجهولِ ,  أضمُّ إلى صدري ما تبقى من أطيافِهم الباهتةِ في ذاكرتي الملأى بالثقوبِ وأصرخُ ملْءَ حنجرةِ المدى الطاعنِ بالإشتياقِ : متى تكفونَ عن الموتِ ؟ متى تكفونَ عن إشعالِ الحرائقِ في يباسِ أرواحِنا كما الجذوعِ في مواقدِ الشتاءِ ؟ فتخمدُ نيران أناتِ الصدى كلما عزفني السرابُ مدائحَ للغيابِ , وارتطمَ نبضي الهلعُ مع هزيزِ الريحِ بدوزانِ نايّ أوجعني كلما امتدَ الحزنُ الأَلكنُ بي منافٍ أنكرتها أجسادُ الخرائطِ ..
كم كانَ رحيلُهم راقياً كما هم ! لم ينبسوا ببنتِ شفةٍ ولم يطلبوا الرحمةَ من الغيبِ أن يدرأَ القدرَ عنهم , ساروا صامتينَ تلفُهم أفياءُ الحيرةِ والتيهِ من كلِّ الجهاتِ ...
وكلما تناقصَ الأهلونَ والأحبابُ والأصحابُ تعبتْ أصابعي الخمسةُ من إحصاءِ عددِ الراحلينَ فتمادتْ وأعلنتْ عليَّ التمردَ والعصيانَ , صرتُ أدونُ أسماءَهُم وأعدادَهُم على الجدرانِ حتى امتلأتْ وتخضَبتْ بالدموعِ , وعلى جذوعِ الأشجارِ المُعمرةِ كي لا تُغَيَّبَ ذكراهُم مع الزمنِ المتعجلِ إلى هاويةِ البعيدِ , تعبتْ شفتايَ الراجفتانِ من الرثاءِ وسردِ الحكاياتِ عنهُم : " هنا كانوا , ألا تسمعونَ ضحكاتِهم البريئةَ ووقعَ خُطاهُم على جسورِ الحكايةِ ؟  وهناك تلوحُ باليدِ آثارُهُم قربَ نورِ القنديلِ المكسورِ تستصرخُ صهيلَ الضفافِ الحافيةِ , وأظلُّ أتساءلُ ولا أجدُّ الجوابَ : من يوقفَ نزفَ القصيدةِ كلما نهشنا الغيابُ عندَ السطرِ الأخيرِ قبلَ أن ينسى الزهرُ ألوانَهُ على قارعةِ الذبولِ ويغيرَ النهرُ الظمئُ مجراهُ على أرشيفِ المطرِ والسحابِ كي يذهبَ ليستحمَ بالضوءِ ؟
لا أدري , ولكن سيبقى بيني وبينهم  خيطٌ من دمعاتٍ وسطرانِ من لهفةٍ واشتياقٍ , وقلبي المنذورُ للآهاتِ ليس ضريراً , فما زال يراهُم في الصورِ الحائطيةِ  وفي كلِّ مكانٍ  , يسيرونَ في الحقولِ ليلاً ويتجلونَ على قممِ الحورِ والصفصافِ شتاءً  , وما فتِئَ يركضُ خلفَ أدقِّ تفاصيلِهم في الصورِ القديمةِ فينكسر ويتشظَّى بلوراً على فضةِ قناديلِ الليلِ ...
وبعدَ ذياكَ الوداعِ الأخيرِ أُحَمِّلُكَ يا غائبَنا السلامَ للأجدادِ والجداتِ ، للآباء والأمهاتِ، للأعمامِ والعماتِ ،
الاخوال والخالات، لكلِّ من سبقَكَ إلى أرضِ النهاياتِ ، أَترى يطلونَ علينا من السماءِ ؟ أيسمعونَنا حين نناديهم ، وحين ندعو لهم بالأدمعِ الهامياتِ ؟ أتراهم يشتاقونَنا حين نشتاقُهم ، ويتذكروننا حين نتذكرُهم  فيضوعُ عبقُهم حبقاً في أصباحِنا وزنابقَ في أمسائِنا ؟
لا تغبْ علينا كثيراً .. عُدْ إلينا في الشتاءِ غيمةَ ليلكٍ حين تصبحُ الدروبُ موحشةً والبراري مستذئبةً ، وحين يصبحُ السكونُ سيدَ المكانِ ، وحينَ يقتلُنا صقيعُ غربتنا المتكدسُ فينا منذ فُقْدٍ وحسرتينِ ، عُدْ إلينا في الأعيادِ طائراً أبيضَ يسقسقُ على قناطرِ النَّدى وتكبيرةً في فجرِ مئذنةٍ  ، عُدْ إلينا  في الربيعِ سوسنةً على تلةِ رياحينِ أجدادِنا ، وفي الصيفِ موجةً تعانقُ النوارسَ والشواطئَ  وزرقةَ السماءِ ، وفي الخريفِ شدوَ ناياتٍ في حقولِ القمحِ  وعبادِ الشمسِ  ..
 ليتكَ تتركُ لنا حيزاً حيثُ تكونُ مع أحبائنا هناكَ ، حين تتحلقونَ  المواقدَ  وتتحدثونَ عن الديارِ ،  فأننا قادمونَ  لربما بعدَ خريفٍ أو أثنينِ أو بعدَ حصادٍ أو قطافٍ ،  لستُ أدري .. لستُ أدري ..
أتوصينا على شيءٍ نجلبهُ إليكَ من دُنيانا العابثةِ ؟
==============ميلا عياري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق