المشاركات الشائعة

الخميس، 26 مارس 2020

قصة قصيرة. ربطة عنق ...قلم الطيب جامعي

قصة قصيرة.
       ربطة عنق
قال الممرض:" ستهدأ الآن، بعد سويعات ستفيق بعد زوال المهدّئ، و ستكون على أحسن حال إن شاء الله".
أبي شخصية مميزة. كان شديد الاعتناء بمظهره ،أنيقا يسلب العقول. و أعترف أنّني كنت أغار عليه من النّساء و البنات قبل أن تغار عليه أمي السّاذجة. و أجمل ما في هندامه ربطة العنق.
كان شديد الاعتناء باختيار ربطات العنق، و لها خصّص أحد رفوف الدّولاب. و لعلّ هذا الحبّ مرضٌ معدٍ، فقد انتقل إليّ فأصبحت مفتونة بها أنا أيضا.

في المحل الذي يملكه والدي كنت أقضي بعض الوقت. في ذلك اليوم وجدتني أقلّب إحداها بين أناملي. أتفرّس فيها و أعيد النّظر مرّات و مرّات. وألفيت يدا ناعمة تمتدّ إلى يديّ و تأخذها منّي.إنّه وسام كما علمت بعد ذلك.

قال بلهجة ناعمة: "إنني أفتّش عنها منذ مدّة و لمّا أجدْها. ذوقك راق. أتسمحين سيّدتي؟". لم أدر بما جاوبت، و لا أعرف كيف. لم أمانع، وأنا التي لا تعرف عنه أيّ شيء. قلت في خفر مصطنع:
- آنسة... آنسة ... مازلت آنسة سيدي الكريم.
- أ و قمر مثلك بلا رفيق ؟
تناهت إليّ جملته الأخيرة. استعذبتها جدّا. أخذت كلّ لبّي، وأسرت فؤادي العطشان أصلا قبل حتّى هذا اللّقاء.

في ما بعد تواترت لقاءاتنا بترتيب و بغير ترتيب، و في كلّ مرّة كان يبتاع أفخر الثّياب و يترك لي مهمّة اختيار ربطة العنق...

ذات لقاء جاء على غير عادته وفرح طفوليّ يتراقص في عينيه. ذكر أنّ هذا اليوم سيكون تاريخيّا في حياته. حدّثني عن الحبّ و العواطف الجيّاشة التي يتركها في النّفس. في الحقيقة لم يكن بحاجة إلى التّفسير أكثر. فأنا منذ اللّقاء الأوّل شعرت بميل جارف نحوه. لم يكبح جماحه إلا بقايا تربية رصينة و بعض كبرياء. قلت :" أنا كذالك أحسّ بما تحسّ به. فللحياة معنى آخر في رياض الحبّ". كان في كلّ مرّة يبتسم لي و يثمّن ما أقوله، دو أن يعقّب، و كنت سأرتكب حماقة لولا طيف والدي الذي هلّ على حين غرّة. اندفعت أقدّمه له:" وسام، مسؤول سام في بنك المحبّة .." ثمّ أستدرك بسرعة:"... في .. في بنك الأحبّة". صدرت عنه و عن والدي ضحكات عفوية نزلت على قلبي الغضّ كالشّهد. وألفيتني أنكمش حياء.
ثمّ وجدته يأخذ بيدي إلى جناح الملابس الفاخرة فيطلب إلي انتقاء أفضلها، ثمّ إلى ذلك الجناح المفضل: جناح ربطات العنق، ويلتمس منّي اختيار أفضلها...
 في نهاية اللّقاء وجدته يلحّ عليّ في الحضور على " الكورنيش "عند أكثر اللّحظات متعة و إثارة: ساعة الغروب. و لا تسل عمّا أحسست به . فقد طار قلبي فرحا. يا الله! كم هي لذيذة  هذه الحياة ! !

 إلى البيت طرت. استقبلتني أمّي باستغراب و فضول. حدّثتها عن لقاء مصيري سيغيّر مجرى حياتي، و لم أزد على ذلك. و انفتحت مخيّلتها على تكهنات أظنّها بحجم الجبال.
مرّت السّاعات بطيئة. كنت أستعجل الغروب، حتّى ضاق بعض إخوتي بتلهّفي ذرعا، و عدّوه من لوثات الطّيش و التّسرّع غير المبرّر.

ما أتذكره أنّي وجدتني أخيرا على "الكورنيش" أذرعه بعينيّ الحالمتين. و لم يخطئ لحظي في تمييزه من بين عشرات العاشقين الذين يقتعدون الطّوار أو بعض المقاعد المخصصة للراحة و التأمّل و الاستمتاع بسحر الغروب. قلت في لهفة:
- عمت مساء وسام ،أ لم تنتظر طويلا؟
- نعم. وصلت الآن فقط. في موعدك بالضّبط.
-  إلى أين ستأخذ ضيفتك الكريمة؟

كان في قمّة الوسامة زادته بعض الرّوائح الطيّارة بهاء. خيالي سرح بعيدا بعيدا .. و بدأ ينسج التّفاصيل وراء التّفاصيل... أفقت على صوته النّاعم يطلب إليّ بكل رفق أن ألبسه ربطة العنق و أسوّيها له. ثم يأخذ بيدي إلى مكان ما من "الكورنيش".

كنّا نتحدّث و نثرثر . لا أدري ما قاله لي و لا ما قلته له، فقط قلبي يكاد يخرج من بين جوانحي. وصلنا إلى مقعد جانبي لا يحجب عنه الغروبَ حجابٌ لحظة الغروب. على طرف المقعد فتاة. تفرّست في ملامحها. لم أر إلا بدرا منيرا تخجل من بزوغه القمور. قلت في جذل و حبور، و في يقيني أنّها أخته لما بينهما من شبه:
- ألا عرّفتنا البدر المنير؟
- فاتن. فاتن أحمد المرعوي، مهندسة شابة. و...
قال كلاما كثيرا و تفاصيل عديدة، لم أنتبه إلا للجملة الأخيرة" خطيبتي إن شاءت الأقدار".

خطيبته ؟  .. خطيبته؟ و من أكون أنا إذن؟ كلّ الملابس التي انتقيتها له بعناية و ربطة العنق الفاتنة لمن؟ لغيري؟ قلبي الذي استهلك كل طاقته في الخفقان لمن؟ أحلامي؟ ... غامت الدّنيا من حولي، اسودّت، أصبحت بثقل الرّصاص المذاب، بطعم العلقم. وددت لو أنّ لي خنجرا أ و سيفا حادّا... لو أنّ لي سمّا زعافا. و ماذا سأفعل بكلّ ذلك ؟ لا أدري...
الأرض تتمايل. لِمَ الغروب أصفر؟ يداي .. رجلاي ..أنفاسي ..

صباح الخير، حمدا لله على السلامة؟ أخيرا فتحت عينيك.كانت الكلمات تخرج من رجل أربعيني يلبس الأبيض. و سرعان ما التحق به شبح آخر .. و آخر  .. و آخر.. انجلت الصورة قليلا... بدت الآن أوضح.
تسمّرت عيناي على ربطة عنق أبي، ثمّ على ربطة عنق الطبيب. صوت من داخلي يصيح و يقول لي: مزّقيها، مزّقيها... هيّا... هيّا. فانبعثت فيّ قوّة عجيبة.و ككَاسِرٍ انتفضت. تعلّقت أوّلا بعنق أبي في " هيستيريا " و ضراوة . نهشت الرّبطة، مزّقتها، و كدت أمزّق رقبته أيضا وسط ذهول الجميع. ثم عزمت على الرّبطة الثانية .
مُسِكت بقوّة، سمعت بعض الهمهمات... حفظت ذاكرتي" مجنونة"...
أرى حقنة في يد أحد الممرّضين ...و ما لبثت  الدّنيا أن غامت من جديد.

**** الطيب جامعي / تونس ****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق