الأحد، 20 أكتوبر 2019

سندرلاّ ..قلم فوزية عاشور

سندرلاّ ~
هزّتها دعوة العشاء وانتظرت المساء شوقا وأملا، قضى النّهار حائرا يسأل الشمس متى تجودين بالغياب ..متى تأذنين بسهرة العمر ..أخرجت كلّ فساتينها من الخزانة تختار وتحتار أيّها أكثر سحرا وتمرّ الساعات بطيئة ...وتذهب به أحلام اليقظة من خيال إلى خيال ..فيحلم بالورد يتوّج سندرلاّ أميرة ..وأسراب البلابل والعنادل تزفّها عروسا هنديّة وجوقة من الطيور الجميلة تملأ الغابة ألحانا ورديّة ...ارتدت فستانا بنفسجيّا .. وضعت بعض الزّينة وتعطّرت .. أخذت حقيبتها وخرجت يحدوها أمل اللقاء ويأخذها سحره .. بعد أن طمأنت الجنّية أنّها لن تتأخّر كما وعدتها .. أمّا هو فكان وحيدا بلا ورود ولا طيور ولا أميرة ...فينكسر خاطره حينا ..ويعوده الأمل لما يتذكّر أنّ اللقاء قريب.. وصلت أمام باب القصر قادها أحد الحرّاس إلى حيث الأمير رأته من بعيد وهو يجوب الحديقة بحثا عن أمل يظهر في الأفق .. دقّ قلبها حثّت الخطى إليه ... كأنّه اشتمّ رائحة عطرها تعلن عن هبوط اضطراريّ للملائكة .. التفت فرآها.. لم يصدّق ما رأى اقترب منها واقتربت منه، حيّاها، ثمّ أخذ يدها بكلّ الحبّ وقبّلها أرادت أن تسحبها لكنّه أمسك بها وقادها حيث أُعدّت مائدة العشاء فابتسمت .. وسرت رعدة في يدها قال لها لائما : تأخّرت ... ابتسمت وهي تعلم أنّها لم تتأخّر .. هو الشّوق وحده من يجعل الزّمن طويلا، أسعدها أنّه اشتاق إليها .. ألقت نظرة على المكان ...يا للرّوعة.. الأشجار ارتدت حلّة من الأضواء والسّماء تزيّنت خصّيصا بنجوم ليست كالنّجوم.. حدّق بعينيها ..فإذا الدنيا بعينيها وإذا المكان والزّمان يسجدان..اقترب من المائدة سحب الكرسيّ أجلسها بلطف الأمير ورقّته ... رفعت رأسها إليه ممتنّة فرأت في عينيه سحرا آسرا، الكون من حولهما سكون كأنّه في ابتهال.. جلس قبالتها والابتسامة لا تفارق محيّاه، سعيد هو بكلّ ما فيه... ولكنّه لا يكاد يفصح ..أخذته روعة اللحظة من نفسه سكنت حركته ونزع تاج الإمارة وتوّجها .. قال وهو يكاد يضمّها بعينيه: شكرا لأنّك لبّيت الدّعوة، خشيت ألاّ تأتي... ابتسمت: شكرا لك على الدّعوة يسعدني أنّني هنا، كانت الشّموع تضيء جانبا من وجهها رأى حمرة خفيفة تعلو خدّيها وهو ينظر إليها، فطنت له فزادت الحمرة وضوحا ... مدّ بصره يحضن السّماء ويسبّح الخالق على ما وهبها من جمال... بسيطة هي بكلّ ما فيها شكرا إلاهي أن أنعمت باللّقاء ...وإذا بها تدنو من يديه ... تريد أخذ كأس الماء كي تروي ضمأ استبدّ بها، فيأخذ يدها بين يديه، تشعر برعدة تسري في كيانها .. قطع اللّحظة عليهما الخادم وهو يحمل العشاء .. جذبت يدها والتفت هو يشكر الخادم .. وضع في طبقها بعض السلطة ودعاها كي تبدأ باسم الله وانبرى يتأمّلها وهي تمضغ على استحياء ..ابتسمت و دعته كي يشاركها أكلها، أطاع أمرها وهل يملك إلاّ أن يطيع من سلبته القلب قبل العقل أخذت الشوكة وأطعمته بعض ما علق بها من سلطة.. تناولا بعض اللقيمات وكلّ منهما يودّ لو أطعم الآخر بيده ومسح عن فمه ما علق به من طعام، مضى بعض الوقت بين الطعام والضّحك وسط حديقة تفوح منها روائح الورود وتكلّلها نجوم السّماء وتهتزّ الوريقات لنسمات باردة تزيد اللّقاء روعة و سحرا .. انتهت حفلة الطّعام فقام وأخذها من يدها ليجلسا على مقعد خشبيّ في آخر الممرّ في الحديقة ..أجلسها وجلس إلى جانبها .. نظرت إليه فرأته يمعن النّظر فيها ابتسمت ، فابتسم قائلا: ما أروع ان تكوني هنا ...قالت: ما أروع أن أراك هنا .. شعرت به يقترب منها يلفّ ذراعه حول كتفيها فتلامس وجهه خصلات من شعرها ..ويملأ الصدر من عطرها... يهتزّ قلبه .. وتسرح ببصرها نحو الشّموع، الشّموع ترقص على نغمات قلبها.. تهتزّ كما يهتزّ.. وتتمايل طربا كما يتمايل رأت وجهها في عينيه .. فتدنو أكثر منه وتهاجر الكلمات، وتضع رأسها على كتفه فيلفّ يده الأخرى حولها و يضمّها إليه وتلامس جبينه جبينها يقبّل رأسها.. تشمّ رائحة عطر باريسيّ يذكّرها برائحة النرجس حين كانت تقطف بعض زهراته ذات صبا.. تدفن في صدره رأسها يلفّ الكون الصّمت حتّى الجنادب التي كان أزيزها يقطع الصّمت من حين الى آخر خيّرت السكون ... سكنت وسكن حتّى يظنّهما النّاظر تمثالا للعشق وجد في المكان منذ الأزل، وتتدفّق الدماء ويحمرّ الورد على خدّيها .. يمرّر يده على شعرها، حريريّ الملمس هو، و ينزل على خدّها فترتاح يده على الخدّ ولا تروم فراقا ناعمة المحيّا هي ... وناعم ملمسها ..ترفع يده إلى شفتيها وتقبّلها أخذه السحر فطبع قبلة خفبفة على رقبتها.. شعرت به يسري في دمائها انتفضت كالذّبيحة، قامت تروم الابتعاد، أمسك بيدها ولحق بها، سارا حينا من الزّمن في ممرّ تحفّ الزّهور بجانبيه، تشمّ أريجها ولا تراها .. اقترب منها أكثر ابتسمت وتبسّم.. طوّق خصرها بيده وأمسك بالأخرى يدها طأطأت رأسها ومن بين خصلات شعرها غمرته بنظرتها... أحسّ لأوّل مرّة في حياته معنى سهام اللّحظ ..رشقته بسهام فكاد يُردى قتيلا، تعثّر في مشيته فتوقّفت.. وأحسّ أنه لا يملك الساعة أمره ولا هي تملك أمرها.. توقّف و قابلها .. نظرت إليه .. أخذها إليه .. تركته يفعل، ضمّها ورقص قلبه طربا.. سمعت دقّاته فرقص قلبها.. انسابت بين يديه ... وإذا بها تضمّه فيضمّها وتتذكّر في غمرة اللحظة الجنّية وما وعدتها به .. تبتعد وتعود إلى نفسها، ما أروع هذا اللّقاء.. لولا مرارة الفراق، تخبره أنّها يجب أن تغادر.. لقد وعدت وعليها الوفاء بوعدها .. فيتداعى ويتهاوى ... ويغيب عن المكان .. ويغيب عن الزمان .. وتتداعى وتتهاوى وتغيب في الزّمان، تتناول حقيبة يدها ويده في يدها لا يروم فراقا .. يصرخ: توقف يا زمن .. و لكنّ الزّمن يأبى الاّ ان يكون قاسيا .. تحثّ الخطى نحو الباب يستبقيها .. تنظر اليه متوسّلة، يترك يدها تتسرّب بين أنامله.. تبتعد ويبتعد و تهبّ الآلام ...ويحسّ مرارة في فيه ..ويتمنّى لو لم يكن سفر ولا إنس ولا جان... تختفي خلف البوّابة تسرع إلى الطّريق تأخذ سيّارة أجرة تدفن بين أبوابها الألم و الأمل .. تعود من حيث جاءت .. لتعود كما كانت، حيث كانت، ذهبت وتركت أميرا بلا إمارة..وصورته تتراءى لها بين الأشجار كسيرا أسيرا بين المنى والأوهام .. ضمّه قلبها و يأبى عقلها أن يصدّق الأحلام وتعود الى الأرض كي ترضى بما قسم لها و تترك قصّتها جزءا من السّماء ويستفيق من حلمه ليكتشف أنّ سندرلاّ لم تعد هنا ...... ~
~ فوزية عاشور ~
~ 09 /10/ 2019 ~


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق