الثلاثاء، 12 نوفمبر 2019

أعلنتك... انتصاري ...قلم سلوى البحري


أعلنتك... انتصاري
وحيدة هي في هذه الصحراء القاحلة  إلاّ من حقيبة سفر صغيرة بحجم الفرح في دنياها. الشمس تلفحها. وعلى الرأس قبعة تغطي أحزانا سكنت الفكر وشرّدته. فستان أبيض بياض الروح شفاف لايكاد يستر آلام فؤاد مزقه الحنين تتخلله نقاط سوداء بحجم ما في حياتها من أنين.
   _صباح الخير آنستي الجميلة.
تجاهلت شهرزاد هذا الصوت الرخيم. هزتها موجاته. تسللت إلى وجدانها البكر حبة سكر تجلو رتابة يومها.
_أتسمحين لي بالجلوس؟
استدارت . ماهذا البدر الساكن في الجسد؟ صورة طابقت الصوت. ماعادت قادرة على التجاهل اغتصبت الابتسامة شحوب الوجه وزينت الثغر. أجابت بنزق الأنثى المسحورة.
_تفضل يا....
بسرعة مد يده مصافحا. جلس في المقعد المحاذي لها. وانطلق القطار.
_ رائد مهندس ميكانيكي.
وكيف لاتكون رائدا؟. سألت في سرها. إنك أول فتى يرتاد القلب دون إذني. مدّت يدها.
_شهرزاد سنة أولى فنون جميلة.
تجاهلت نظراته. وخفضت  بصرها. فمازال فيها بعض خفر وأنوثة تأبى على المرأة لحظات التجلّي والافتتان. هكذا كان أوّل لقاء لهما . وهكذا سطّر لهما القدر أوّل سطر في رباطهما المقدّس. بسرعة  توهج الحب في قلبيهماو سربل دربيهما وغاص بهما في سراديب العشق ينهلان من يمّه. فيسكرهما  حتى الثمالة.تحدد موعد العرس.خرجا للتسوق. كانت شهرزاد تتأبط ذراع شهريار كما يحلو لها أن تناديه . وكلما تمنعت وتدللت هددها ممازحا بقطع رأسها إذا أذن الديك وصاح. فتتعالى ضحكاتهما في الفضاء تعانق المدى. لم تكن شهرزاد تميل للفساتين الناعمة. كانت غجرية الهوى. لكنها استكانت أمام إلحاح عينيه اللتين تعلقتا بفستان أبيض ذي نقط سوداء. لقد تمسك به. واشتراه لها. وتصورها حورية تنساب داخله. شهرزاد الملكة المعشوقة العاشقة تتلو على مسامعه أعذب قصص الغرام حتى تباشير الفجر وتعزف  على أوتار قلبه ترانيم الحب.  لاتدري  كيف أمضيا الليل يتسامران ويكابدان العشق فيصرعهما . ولامتى غلبهما النعاس فانقطعت محادثتهما. فغدا يوم العرس.
استفاق باكرا. هاتفها. أسمعها من الغزل أعذبه. وأمطرها من القول أرقه وأصدقه. وتواعدا على اللقاء مساء. لم تفهم لم أصرّ على إغلاق هاتفه حتى المساء. تعلل أنه يفعل ليتأجج شوقه لها. لم تقنعها حججه ولكنها استسلمت له كما تعودت أن تفعل. فصوته يخدر حواسها ويهزم دفاعاتها ويتسلل إلى روحها فيأسرها... تعالت أصوات الموسيقى انقبض قلبها. لم تشأ أن تدخل قاعة الأفراح وحيدة دون عريسها . أيّ شؤم هذا؟ مضت ساعة.. فساعتين ولكنه لم يحضر. انتابتها الهواجس بدأ الهلع يتسلل إلى قلوب الحاضرين. ساعة أخرى من الغياب وبدأ الهمس والجهر لقد هرب العريس. ويلها ما هذا القدر الأحمق؟. أما كان شهريار قادرا على ذبحها وسلخها فجرا؟. لم عجل بإعدامها ؟ انتزعت نفسها من فستان العرس. وارتفع نحيبها يدمي القلوب. لم تشأ أن تفتح باب غرفتها. تناهى إليها صوت صرخات مكتومة . امتدت يدها تفتح التلفاز لعلها  تتناسى وجعها.
     نزلت من السيارة تقدمت بضع خطوات في الصحراء. تطايرت  حبات الرمل تلسع وجهها. مدت يديها تخفي عينين تورمتا بكاء وتبحث عنها.. عن بقاياها.. عن عمر من الفرح ولّت حباته. كيف حضرت لاتدري؟ كل ما تتذكره ذاك الخبر المشؤوم الذي أعلنته المذيعة "لقد فجر أعداء الوطن  عربة عسكرية فمات الضابط رائد في الحال. عندها فقط وجدت إجابات لأسئلتها. إذا حبيبها كان مهندسا في الأكاديمية العسكرية. ولم يستطع يوم زواجه أن يرفض نداء الواجب. لقد كلف بملاحقة مجموعة إرهابية لعينة. ولهذا أغلق هاتفه. ولكن الموت عاجله ولم يمهله العمر ساعة يراقص فيها عروسه.. يطفئ لهيب شوقه لها.
لم تكد المذيعة تعلن الخبر المشؤوم حتى صاحت شهرزاد صيحة زعزعت الأركان وأذابت القلوب. لا تدري كيف أمضت ليلتها لكنها تتذكر كيف حضرت الجنازة ولا جثة فقد مزقتها الألغام.  ومزقت معها ألوان الفرح. وقصفت عمرا من الغرام كان سيشرق. آه ياشهريار تعجلت الرحيل وزهدت في اللذات. هافجرنا الأول يصيح الديك ولاتقتلني عشقا...
في ذكرى زواجها الأول ارتدت شهرزاد الفستان ذا النقط السوداء و  جاءت  تزور مكان الحادث تتفقد  بعلها تبكي أحلامهما المغروسة في العمق. تتأمل بقاياحبيبها المبعثرة..أنصاله المزروعة في المدى.. شتاته المبثوث في الرمل.. تطايرت حبات الرمل تلثم الثغر تصافح المحيا تعانق الشعر الغجري تتلمس القد المياس تراقص الفستان المنتقى والجسم المشتهى. تقيم وليمة للغرام. تحتفي بوفاء هذه العروس. انحنت شهرزاد وهي تداري دمعا هاج من مآقيها لتجمع أنفاس رائد.. همساته.. لمساته.. ضحكاته.. حكاياه.. فتحت الحقيبة وسحبت منها فستان العرس الطاهر ولملمت من رمل الحبيب ما استطاعت. ووضعتهما معا في كيس عقدته عليهما جيدا. وأعادت الكيس إلى الحقيبة. وعزمت على الرحيل مرفوقة ببعض من شهريارها. تردد لحن الانتصار . فقد هزمت الموت وزوّجت شتات جسم لبقايا روح. (تمت)
سلوى  البحري صفاقس تونس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق