من وحي الذّاكرة
تناديت و أنا على فراش المرض.. لا تركن ..لا تستسلم..لا تجعل المرض سيّدا عليك فيقعدك . اجعل المرض نقطة عبور إلى محطة أخرى تكون فيها أقوى..تحاملت على جسدي المنهك تلبية لطلبي و استجمعت كلّ ما من شأنه أن يقوّيني ويجعلني سيّدا قائما أمام المرض.. تذكّرت أمّي فوجدتها ترمقني بالرّأفة و الحبّ و تلهج بوابل من الدّعاء و التّمني لي بالصّحة و العافية وقرب الفرج و كانت عيناها مغرورقتين دموعا فخفت عليها من أن تنهار و هي ركيزة كلّ العائلة .. فنزعت عني غطاء نومي لأبعث فيها الفرح و أنفّسها الصّعداء .. رأيت في ولديّ الانكسار و التّهاوي و أنا الذّي كنت مصدر قوّتهما فترجّلت لأبشّرهما بشفائي و عافيّتي و أعيد لهما نبض حيويّتهما .. تراءت لي زوجتي ففهمت من ملامحها حيرتها و انسداد الأفق أمامها في إدارة الشّؤون و إحساسها بالفراغ فخطوت بعض الخطوات داخل الغرفة لتراني إلى جانبها فتستعيد سيطرتها على ما هي فيه.. و خجلت أن يلقاني والدي عاجزا و هو الذّي ربّاني على مغالبة المصائب و المصاعب..فابتسمت و أظهرت من الخشونة و رباطة الجأش ما قد يرضيه عنّي ويجعله فخورا بأنّي ابنه الّذي يريد..ثمّ رأيت علم البلاد من نافذة الغرفة فأحزنني أن يلقاني ممدّدا في حين كنت أحيّيه كلّ يوم في مدرستي و بذلت مع كلّ من يقدّره و يحترمه كلّ ما نستطيع ليبقى مرفرفا معلنا قوّته و قوّة البلد حتّى زمن "الخوف".. تذكّرت حديقتي الصغيرة وانتبهت أنّها تطالبني بالعودة إليها فهي لا ترتوي إلاّ إذا سقيتها بيدي لذلك قمت لأرويها و أزيل ما علق بها من شوائب.. ثمّ تجوّلت بنظري في الغرفة فأخذتني أوراقي و قلمي و بعض الكتب و وجوها كانت ترى فيّ الصلابة و الجلد.. حثّتني.. فلملمت جسدي و أبديت صورة يحبّونها فما من مرض أكثر من الّذي عشناه عندما كنّا اصحّاء ولكنّنا صمدنا و صرخنا في وجه ذلك المرض و كتبنا ما يدينه و ركضنا في الشّوارع رغم الأغلال لنعلن ثورتنا عليه.. قمت من الفراش ملبيّا الطّلب و ما زال بي بعض الدّوار .. كأنّ شيئا ينقصني لأشفى تماما.. تحمّلت ذلك الدّوار و رحت أفتّش عمّا ينقصني..قفزت إلى ذهني أفكار كثيرة فأردت أن أبعدها عن خيالي لأنّ الوحدة الفعليّة أو حتّى مجرّد الشّعور بها و أنت في وسط مجموعة قد توحي بما قد تندم على فعله لو سمحت لتلك الأفكار ان تلج إلى خيالك الدّاكن.. عاودت البحث لأنّي استغربت ممّا جال بخاطري.. كل الّذين أحاطوا بي أعطوني دفعا كبيرا لأغلب المرض و أجعله صغيرا لا يقدر على من لهم أناس كأناسي و أهل كأهلي ...كان المرض فعلا قزما أمام اصراري على النّهوض و العودة إلى معترك الحياة ولكن لماذا يتواصل الدّوار ؟ هل لفراشي دور فيما أحسّ به؟ .. هل في الغرفة ما يجلب الإحساس بالدّوار ؟ ..طال تساؤلي وامتدت حالة الدّوار تلك... خرجت بعد مدّة ليست قصيرة من غرفتي ففرحت العائلة بذلك و فرحت لفرحهم .. فرحت لأنّ الألم ذهب بدون رجعة( أرجو ذلك)..و فرحت أيضا لأنّي عانقت الضّوء و لبست زيّا اخترته بإرادتي و لم أكن مجبرا عليه..و أخيرا زال عنّي الدّوار و فهمت سببه .. إنّها الغرفة الّتي كنت أقيم فيها و الباب الحديديّ المغلق و كان من ورائه رقيب على سكناتي و حركاتي .. عدت إلى حيث يجب أن أكون .. عدت و التقيت أخيرا بمن تزوّجت .. و رزقت بولدين كما حلمت و زال الدّوار .. عدت إلى الشّارع الذّي اشتقت ارتياده .. و زال الدّوار لأنّي أمام أمّي فعلا و أتحدّث إلى والدي متى شئت.. رجعت و صافحت حديقتي و أشبعتها ماء حتّى أعوّض عنها حرمانها.. و أخيرا زال كلّ الألم لأنّي في غرفتي الحقيقيّة و أتحكّم في غلق و فتح بابها و لا رقيب من ورائه..و فهمت أنّي لم أكن مريضا إنّما القيد هو مرضي و البعد عمّا أحبّ و عمّن أحبّ هما سببان آخران للدّوار ..
رشدي الخميري/ تونس.
تناديت و أنا على فراش المرض.. لا تركن ..لا تستسلم..لا تجعل المرض سيّدا عليك فيقعدك . اجعل المرض نقطة عبور إلى محطة أخرى تكون فيها أقوى..تحاملت على جسدي المنهك تلبية لطلبي و استجمعت كلّ ما من شأنه أن يقوّيني ويجعلني سيّدا قائما أمام المرض.. تذكّرت أمّي فوجدتها ترمقني بالرّأفة و الحبّ و تلهج بوابل من الدّعاء و التّمني لي بالصّحة و العافية وقرب الفرج و كانت عيناها مغرورقتين دموعا فخفت عليها من أن تنهار و هي ركيزة كلّ العائلة .. فنزعت عني غطاء نومي لأبعث فيها الفرح و أنفّسها الصّعداء .. رأيت في ولديّ الانكسار و التّهاوي و أنا الذّي كنت مصدر قوّتهما فترجّلت لأبشّرهما بشفائي و عافيّتي و أعيد لهما نبض حيويّتهما .. تراءت لي زوجتي ففهمت من ملامحها حيرتها و انسداد الأفق أمامها في إدارة الشّؤون و إحساسها بالفراغ فخطوت بعض الخطوات داخل الغرفة لتراني إلى جانبها فتستعيد سيطرتها على ما هي فيه.. و خجلت أن يلقاني والدي عاجزا و هو الذّي ربّاني على مغالبة المصائب و المصاعب..فابتسمت و أظهرت من الخشونة و رباطة الجأش ما قد يرضيه عنّي ويجعله فخورا بأنّي ابنه الّذي يريد..ثمّ رأيت علم البلاد من نافذة الغرفة فأحزنني أن يلقاني ممدّدا في حين كنت أحيّيه كلّ يوم في مدرستي و بذلت مع كلّ من يقدّره و يحترمه كلّ ما نستطيع ليبقى مرفرفا معلنا قوّته و قوّة البلد حتّى زمن "الخوف".. تذكّرت حديقتي الصغيرة وانتبهت أنّها تطالبني بالعودة إليها فهي لا ترتوي إلاّ إذا سقيتها بيدي لذلك قمت لأرويها و أزيل ما علق بها من شوائب.. ثمّ تجوّلت بنظري في الغرفة فأخذتني أوراقي و قلمي و بعض الكتب و وجوها كانت ترى فيّ الصلابة و الجلد.. حثّتني.. فلملمت جسدي و أبديت صورة يحبّونها فما من مرض أكثر من الّذي عشناه عندما كنّا اصحّاء ولكنّنا صمدنا و صرخنا في وجه ذلك المرض و كتبنا ما يدينه و ركضنا في الشّوارع رغم الأغلال لنعلن ثورتنا عليه.. قمت من الفراش ملبيّا الطّلب و ما زال بي بعض الدّوار .. كأنّ شيئا ينقصني لأشفى تماما.. تحمّلت ذلك الدّوار و رحت أفتّش عمّا ينقصني..قفزت إلى ذهني أفكار كثيرة فأردت أن أبعدها عن خيالي لأنّ الوحدة الفعليّة أو حتّى مجرّد الشّعور بها و أنت في وسط مجموعة قد توحي بما قد تندم على فعله لو سمحت لتلك الأفكار ان تلج إلى خيالك الدّاكن.. عاودت البحث لأنّي استغربت ممّا جال بخاطري.. كل الّذين أحاطوا بي أعطوني دفعا كبيرا لأغلب المرض و أجعله صغيرا لا يقدر على من لهم أناس كأناسي و أهل كأهلي ...كان المرض فعلا قزما أمام اصراري على النّهوض و العودة إلى معترك الحياة ولكن لماذا يتواصل الدّوار ؟ هل لفراشي دور فيما أحسّ به؟ .. هل في الغرفة ما يجلب الإحساس بالدّوار ؟ ..طال تساؤلي وامتدت حالة الدّوار تلك... خرجت بعد مدّة ليست قصيرة من غرفتي ففرحت العائلة بذلك و فرحت لفرحهم .. فرحت لأنّ الألم ذهب بدون رجعة( أرجو ذلك)..و فرحت أيضا لأنّي عانقت الضّوء و لبست زيّا اخترته بإرادتي و لم أكن مجبرا عليه..و أخيرا زال عنّي الدّوار و فهمت سببه .. إنّها الغرفة الّتي كنت أقيم فيها و الباب الحديديّ المغلق و كان من ورائه رقيب على سكناتي و حركاتي .. عدت إلى حيث يجب أن أكون .. عدت و التقيت أخيرا بمن تزوّجت .. و رزقت بولدين كما حلمت و زال الدّوار .. عدت إلى الشّارع الذّي اشتقت ارتياده .. و زال الدّوار لأنّي أمام أمّي فعلا و أتحدّث إلى والدي متى شئت.. رجعت و صافحت حديقتي و أشبعتها ماء حتّى أعوّض عنها حرمانها.. و أخيرا زال كلّ الألم لأنّي في غرفتي الحقيقيّة و أتحكّم في غلق و فتح بابها و لا رقيب من ورائه..و فهمت أنّي لم أكن مريضا إنّما القيد هو مرضي و البعد عمّا أحبّ و عمّن أحبّ هما سببان آخران للدّوار ..
رشدي الخميري/ تونس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق