قراءة انطباعية للقصة القصيرة جدا " طالب معاشه" للكاتب الكبير حسن برطال/ Hassan Bertal
القصة
طالب معاشه
الطالب الذي لم يظهر اسمه ضمن قائمة الناجحين،أصبح يفكر في الموت..طالب من غزة تبرع لفائدته ب(شهادته)../
القراءة
نص يشدّك إليه شدّا. وهو يحدث في نفسك "قلقلة" و لتفكيرك "خلخلة". نحن لا نرى إلّا ما يرينا الواقع المتكرّر، فنطمئنّ إليه، على فظاظته و قبحه و لا معقوليته في أحيان كثيرة: حتّى المشاكل العادية و التّعثرات البسيطة... أضحت دافعا للتّفكير في الانتحار
و قتل "النّفس التّي حرّم الله إلّا بالحق ". فكم سمعنا بمحاولة انتحار طالب فاشل في الامتحان، و كم سمعنا بانتحار فاشل في قصّة حب، و كم سمعنا بمحاولة انتحار ابن لخلافه مع أحد أبويه... و كم... وكم...
النّصّ كلّه في جملتين اثنتين لا غير. كلتاهما اسميةّ مركبّة.
أمّا الأولى فالمبتدأ فيها معرفة بالألف و اللّام، و جاء النعت تضييقا للمعنى و زيادة في التّعريف و التّخصيص. فالشّخصيّة بلغت من العلم شأوا (طالب)، جعلها مؤهّلة لنيل الشّهادة منطقيّا. لكنّ الفشل كان نصيبها. و هذا وارد و غير مستبعد. ف"يوم الامتحان يكرم المرء أو يهان" و نتيجة لذلك أصبحت تفكّر في وضع حدّ لحياتها. و هذا أيضا، كما قلنا سابقا، لم يعد مستبعدا في هذا الواقع بحكم تكرّر الحالات، و إن كنّا نرفضه بالفطرة. بل لا نستغرب أن تحاول فعليّا وضع حدّ لحياتها. لكن مهما كان عِظم السّبب فلا شيء يبرّر الانتحار طبعا، ناهيك إذا كان السّبب تافها.
هذه الشّخصيّة، في نظري، فعليّا ظلّت رغم محاولات التعريف اللّغوية( الألف و اللّام، النّعت بالمركّب الموصولي) نكرة من حيث الدلالة: فما اسم هذا الطّالب؟ و ما اختصاصه؟ و من أيّ بلد أو رقعة جغرافيّة؟...
و أمّا الجملة الثّانية، فكما الأولى، اسمية أيضا. المبتدأ فيها على خلاف الأولى نكرة، ولكنّه ارتقى دلاليّا إلى المعرفة بفضل النّعت
و ما أضافه من تخصيص و تقييد جغرافيّ. فهو طالب من غزّة، تلك البقعة الجغرافية الصّغيرة المحاصرة المثقلة بهموم الاحتلال
و منتجاته من غطرسة و ظلم و استبداد و قهر ... و موت متنقّل في كلّ شبر منها. في تلك الظروف يتسلّح الغزّاويّ بالعلم رغم ضبابيّة الأفق و سوداويّة المشهد و تقاطع الحاجات و اختلاف أولويّتها. و لربّما هذا وجه من وجوه المفارقات في تلك الرقعة العجيبة. و المفارقة أيضا أنّ هذا الطّالب يتنازل عن" شهادته"، بعد تعب و شقاء، لفائدة ذلك "الفاشل" النّكرة الّذي لا همّ له، على ما يبدو، إلّا طلب العلم. هذه قراءة في مستوى أوّل. غير أنّ المفارقة العميقة و الأقوى تكمن في مدلول "شهادة". فليس المقصود طبعا الشّهادة العلميّة، بل الشّهادة في سبيل الله. إنّ الموت كما أسلفنا في كلّ مكان. و الغزّاوي يعلم جيّدا أنّه مشروع شهادة. و هذا الطّالب من أولئك الذين منّ الله عليهم بها في سبيله و سبيل الوطن السّليب، غيرأنّه آثر أن يتبرّع بها لفائدة طالب فاشل يفكّر في الانتحار لتجنيبه " فعل الكبيرة"( قتل النّفس). و هذا لعمري، قمّة الكرم و السّخاء و إيثار الغير. لا يهمّ، في نظري، إن كان الحدث واقعيا معيشا للتّأريخ و التّوثيق (لأنّه حدث تخييليّ بامتياز) أو لا بقدر ما تهمّنا القيمة الاعتبارية ألأخلاقيّة الإنسانيّة، و باعتباره فكرة. فمازال الفلسطيني يعطينا أشرف الدّروس في الحياة: التمسّك بالأرض و الدين والثّبات على المبدإ و الصّمود والتّضحية و الشّهادة و إيثار الغير ... و كلّ القيم السّامية في زمن لم يعد الأخ يفكّر في أخيه.
النّصّ عميق المعنى، يعبّر عن الواقع بما فيه من تناقضات
و مفارقات عجيبة أحيانا. و لعلّ من بينها ما يرتبط بالعنوان
و المتن. فبَوْنٌ شاسع بين " طالب معاشه" و " طالب شهادة".
و النّصّ للاعتبار و التّفكير، لمراجعة الفلسفة العامّة للحياة. لذلك قلت بأنّه خلخلة للنّفس و التّفكير.
هذه قراءة ذاتيّة للنّصّ الّذي يحتمل قراءات مختلفة طبعا.
احترامي و تقديري لأستاذنا الكبير حسن برطال.
الطيب جامعي/ تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق