الاثنين، 6 أبريل 2020

وجع الذاكرة مذكرات مراهقة ...قلم روضة القاسمي الطاهري

الجزء الثالث
كان للرسالة وجع يتجاوز كل وصف. بعد قراءتها  كنت أود أن أقيء أمعائي. رأيت الوضعية كلها مقرفة ومهينة. وآمنت أن لا أحد بإمكانه  أن يستوعب هذا المقدار من الهزء والسخرية. لا بد أن القدر شاء ذلك هكذا تقول أمي كلما فاتحتني في الموضوع. ويجن جنوني وأقول لها في حنق : "ليس القدر يا أمي بل الشر الكامن فينا. إنه انتهاك المجتمع وقانونه  الذي يخنق الفرحة في  الأحداق ويميت  الشوق في الوجدان،! كيف يا أمي تحاصرنني هكذا ألأني أنثى؟  أدرك ذلك جيدا، فلو تعلق الأمر بأحد أبنائك لكان الأمر مختلفا. وأنهار وأبكي فتنظر في حنق مرددة" ليت الله يريحني ويأخذك عنده" وأرد " من فمك لأبواب السماء. جوار الله أرحم من جحيمكم"
وظللت ألعن هذا المجتمع الذي تقف فيه المرأة لا درع  يقيها هزات المجتمع ولا حصن يحصنها من صروفه بل علي العكس إن  العادات والتقاليد والمجتمع ومتاريسه كلها ضدها في الوقت الذي يكون فيه الرجل بصولجانه.،تعاضده الأعراف والنواميس والتقاليد.

لم يبق الكثير من الوقت لإجراء الاختبارات النهائية لكي أحصل على شهادة الأستاذية  للمرحلة الأولى . فقررت أن أحفر بالأظافر والأسنان لأ نالها

أمضيت سائر الوقت بالمكتبة صباحا وكان حينها رمضان الكريم قد حط الرحال. وأما فيما  تبقى من الوقت فكنت أقضيه في غرفتي أنام قليلا حتى موعد الإفطار وأهب الي مطعم المبيت الجامعي لأكون موجودة وانتهى الأمر.
في المبيت كان حارسنا رجلا صعب المدراس. وكان يترصدنا ويوصل تقريره اليومي إلى المديرة ويحدثها عنا في إطناب فتعاقب المخالفات حد الطرد . ولما استأنس بي  وتوسم  فيّ خيرا  عاملني كما لوكنت ابنته وحينهاح تمتنت العلاقة بيننا وصار يطلب مني أن أجهز له كوب  شاي أوقهوة  في غرفتي وأقبل رغم أني كنت في الطابق الرابع وأتكبد عناء الصعود والنزول بالسلالم. وكان يحب ذلك مني لأني ني  بارعة في ذلك.

 وسألني مرة " هل لديك أهل يا طفلتي؟" فأجبته "طبعا  وهل يوجد في الدنيا من لا أهل له؟"
رد " لم لا يزورك؟"
فقلت ليس لدي من يقدر على فعل ذلك فأنا هنا مسؤولة على نفسي "
استغرب من قولي وزاد اندهاشه لما علم أن أهلي لم يزوروني مطلقا طيلة سنتين. فأثني على وعلى سلوكي واعتبرني قدوة في الأخلاق لأني كنت منضبطة بشكل واضح مقارنا إيايا بمن يراهن مع اصدقائهن
والحقيقة ان ما رآه تمسكا بالقيم لدي وانحلالا عند زميلاتي ليس سو ى أمر نسبي. فهن في نظري لم يكنّ كما  ادعي  العم "منوِّر"  مارقات وغير محترمات بل كنّ يعشن مرحلة كانت لا بد أن تعاش بحلوها ومرها.
.
كنت أجالس العم منوّر كثيرا وكان يحدثني عن زوجته وبناته وكيف زوجهن زيجات محترمة وكيف صار جدّا. وكيف يجالس بناته المثقفات ويحدثهن في أمور الحب والزواج والعمل و... وكنت أستغرب أن يحمل صورتين في الوقت ذاته صورة الإنسان المحافظ حد الاختناق وصورة المتحرر حد البذخ. ولكن أجد له مبررا فأقول مادام يرى ما لا تصدقه العين أو الأذن لا بد له أن يصادق بناته ليجتنب المحظور

"عم منوّر" فيه شي يشدني إليه لربما  هدوؤه، ووجه الذي تعلوه بسمة دافئة ونبرته الهادئة. وكثيرا ما كان يدغدغ مشاعري بالحديث بالطلبات مستفزا إياي بالقول" أليس لديك صديق؟" فأضحك وأرد " ولم السؤال؟"

          في يكتفي بابتسامة ماكرة ولكنه مكر مستحب. ومرة حدثته بكل تلقائية عن حبيبي وبكيت أمامه بكاء مرا  فجعل يدثر مشاعر ي بكلماته الدافئة ويقنعني بأن القدر يختبرني ويخبئ لي الأفضل أوه لو يرضى أهلي سيخطبني لابنه المهاجر ويعود بعد صمت ليقنعني بأهمية الدراسة. وانها هي وحدها من يمكنني من أحلامي.
         وصرت صديقة لعم منور كلما عدت من المطعم الجامعي او من الدرس إلاواستوقفني هو من نافذته وأنا وبعض الطالبات من البوابة أو المدرج لنصعد الي غرفنا ونحن نتبادل التحايا والاسئلة وأستانس الجميع به فصرنا نتحلق حوله نحتسي شايا او قهوة أو ننعم باامقشرات وهو حكاء بارع يجيد النصح والحكي في كل شيء فنسعد ونقضي أوقات معه.

ومرة سألني أليس لك أعمام أو أخوال؟ أجبت " بلى عندي." فرد أعلمهم بالأمر ليتدخلوا لصالحك؟! " وكان كمن أمدنى بخشبة النجاة فسارعت وهاتفت خالي وأي  خال هو نعم الرجال! ما إن سمع شهقاتي في الهاتف حتى زارني في ذات اليوم ورافقته  إلى بيته واحتفت بي زوجته ووعداني بأن يتكفلا بحل المسألة وعدت بعد يومين إلى المبيت في غاية الانتشاء. ووفي ذاكرتي صورة زوجة خالي.
كانت سيدة حكيمة  داعبت مشاعري وهدأتني  ومسحت دموعي. ثم طلبت من خالي أن يرافقني في نزهة إلى المدينة العتيقة وخرجنا ثلاثتنا، واقتنت لي لباسا وحذاء وبعض الأشياء التي تستحقها طالبة في المبيت

أمضيت ليلتي وأنا أحلم بصورتي خالي كان يضمني إليه ويقبل رأسي وكذا زوجته أغدقا على كثيرا من الحب والحنان مسحا وجعي الأسود. و دارت في مخيلتي أفكار كثيرة. وخمنت أني لو تخلصت من هذا الجبن الأسود لأمكن لي أن أحظى براحة الوجدان وقررت أن أفعل فنهضت على الفور وكتبت رسالة لشقيقي بالمهجر أبثه لوعتي واحدثه عن أنين الروح وخلته سيتفهم الأمر لكنه كان أشد شراسة من ذي قبل.
تجاهلني سنتين كاملتين تمضيان  ولم يخط حرفا. بل على العكس من ذلك هاتف والدتي ووعدني بالعقاب حال عودته
.
        وكردة فعل كاتبت حبيبي وطلبت  منه  الحضور إلى الكلية ففعل. كان هو أيضا يلهج بي واتفقنا على أن تكون أولى سنوات التخرج ميعادا  للزواج بمباركك الاهل خاصة وخالي يدعمني لأ ن حجتهم ستندثر وسوف أتخرج

        كنت أعلم أن الأمر أكبر من مجرد تخرجي بل أقبح من ذلك  فهم يرفضون تزويجي من غريب، ليس من جهتنا ولا من أهلنا، بل يريدون مني أن أنفق على أشقائي حتى إنهاء دراستهم.
لم أكن ضد  الفكرة خاصة أن عددنا وفير ومواردنا قليلة ولكن كنت ضد أن تصادر مشاعري كنا لوكنت دابة وظللت أفكر . هل الحب بهذه الرداءة؟ كيف يعامل الإنسان كما لو كان شيئا وتشيأ مشاعره! وتستنقص عواطفه؟
كنت أرى أن  الحب روح الله فينا. إنه قيمة مقدسة وهو جدار الصد ضد الرعونة والتعجرف والكراهية. وهو خيط رفيع لطيف يبعث فينا فنستشعر تلك الطمأنينة التي لا يمنحك إياها إنسان. إنه نور خفي يضئ ظلَمتنا  وعتمتنا ويجردنا من الشر الكامن فينا منذ الأزل بل  هوأكبر إنه وهج لا يوهب إلا لمن اتسعت قلوبهم لتستوعب الانسان وتحبه حبا مطلقا دون قوانين تحده أو تشيؤه أو تقزمه...
أجريت إختباراتي النهائية و كنت من الناجحين في الدورة الاولى وعدت سعيدة إلي غرفتي مان ذلك عند الثالثة صباحا حين اعلنت النتائج وهاتفت أمي صباحا كنت أنتظر زغارديها. لكنها ناحت وانتحبت واستفسرت فإذا قريبة لنا قد فارقت الحياة. وشماتة بالظروف رفضت العودة إلى منزلنا وظللت بالمبيت حتي تنتهي أيام الحزن ثلاثتها.
وعدت إلى نقطة الصفر عطلة موسمية بثلاثة أشهر بين جدران غرفتي لا أغادرها إلا للضرورة.. وعاد الحزن يستوطنني. والهم يسربل حياتي وأنا أبتلع الحسرات. وينثال الأسى رصاصا مصهورا في الحلق والصدر.....
يتبع

وجع الذاكرة
مذكرات مراهقة
روضة القاسمي الطاهري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق