"في مهب الريح"🌊
كنت في ما مضى أسرع الخطى نحو منزله. لأتفقده وأجالسه.فنتضاحك ونتسامر وأشاكسه بالقول:"متى سنراك عريسا مجددا؟ألم تجد إمرأة مناسبة تؤنس وحدتك التي طالت؟"
فيبتسم ويكتفي بالقول:"ومن قال لك أنني وحيد؟ أنا برفقة روح سكنتني منذ نصف قرن.وستبقى أنيستي ونور عيوني إلى أن ألقاها هناك حيث لا إثم ولا تثريب.وسأجدها متلهفة للقائي بإذن رب رحيم."
لكنني أراه اليوم يجلس في دعة ،تائها في ملكوت آخروكأنه لم ينتم يوما الى هذا العالم الذي يضج صخبا.وكأنه سئم الانتظار؛يحملق في الفراغ بنظرات شاردة؛خالية من أي سؤال.لقد غزا الشيب مفرقه واكتسحت التجاعيد قسمات وجهه فجأة. وغارت عيناه وتدلت شفته السفلى المكتنزة واستسلم لحالة ذهول وتوهان؛ أرهقت تفكيري بقدر ما حررته من قيد ذكريات موجعة كانت تجول بخاطره فتدمي قلبه الضرير.
هذا الرجل السابح في عالم النسيان كان وتد حياتي. أنظر إليه فأراني متشبثة بتلابيبه في الغدو والآصال.
وألمحه يدخل البيت حاملا ألعابا أوفاكهة أودفاتر رسم يقدمها لي وهو يقول:"اطمئني يا مهجة فؤادي.أنا معك ولن أتركك حتى أراك أجمل مهندسة في الكون."
أذكر أنه كان يوم تخرجي سعيدا. إلى حد أنني رأيت لأول مرة في حياتي الدمع يهمي من مقلتيه وهو يخاطب صورة أمي المعلقة بجانب سريره والعبرات تخنقه:"اليوم فقط أكملت رسالتي يا زهرة.لقد كبرت صفاء وتوجت رحلة تعبي بتميز."
كم يعتصرني الألم وأنا أزوره يوميا فلا يشعر بوجودي. أحاول أن يتذكر إسمي. لكنه يلتزم الصمت وقد استوطنه الزهايمر اللعين. وينظر إلي أحيانا ويقول:"أنا لا أعرفك ولكنني أشعر بسعادة عارمة حين أراك. فلا تغيبي. فأنا أحبك."
لقد أصبحت أما يا أبي. وخبرت معاناتك وأدركت كم كابدت من مشاق وأنت تقوم بدور الأم والأب في آن.
ترى هل ستعود إليك الذاكرة ولو لثانية لتعرف أنني أسميت ابني أحمد تيمنا بإسمك الذي لم تعد تذكره؟
آه يا أبي كم أنا مذعورة من ذلك اليوم الذي لن أجدك فيه بانتظاري!
بقلمي منى البريكي/تونس
كنت في ما مضى أسرع الخطى نحو منزله. لأتفقده وأجالسه.فنتضاحك ونتسامر وأشاكسه بالقول:"متى سنراك عريسا مجددا؟ألم تجد إمرأة مناسبة تؤنس وحدتك التي طالت؟"
فيبتسم ويكتفي بالقول:"ومن قال لك أنني وحيد؟ أنا برفقة روح سكنتني منذ نصف قرن.وستبقى أنيستي ونور عيوني إلى أن ألقاها هناك حيث لا إثم ولا تثريب.وسأجدها متلهفة للقائي بإذن رب رحيم."
لكنني أراه اليوم يجلس في دعة ،تائها في ملكوت آخروكأنه لم ينتم يوما الى هذا العالم الذي يضج صخبا.وكأنه سئم الانتظار؛يحملق في الفراغ بنظرات شاردة؛خالية من أي سؤال.لقد غزا الشيب مفرقه واكتسحت التجاعيد قسمات وجهه فجأة. وغارت عيناه وتدلت شفته السفلى المكتنزة واستسلم لحالة ذهول وتوهان؛ أرهقت تفكيري بقدر ما حررته من قيد ذكريات موجعة كانت تجول بخاطره فتدمي قلبه الضرير.
هذا الرجل السابح في عالم النسيان كان وتد حياتي. أنظر إليه فأراني متشبثة بتلابيبه في الغدو والآصال.
وألمحه يدخل البيت حاملا ألعابا أوفاكهة أودفاتر رسم يقدمها لي وهو يقول:"اطمئني يا مهجة فؤادي.أنا معك ولن أتركك حتى أراك أجمل مهندسة في الكون."
أذكر أنه كان يوم تخرجي سعيدا. إلى حد أنني رأيت لأول مرة في حياتي الدمع يهمي من مقلتيه وهو يخاطب صورة أمي المعلقة بجانب سريره والعبرات تخنقه:"اليوم فقط أكملت رسالتي يا زهرة.لقد كبرت صفاء وتوجت رحلة تعبي بتميز."
كم يعتصرني الألم وأنا أزوره يوميا فلا يشعر بوجودي. أحاول أن يتذكر إسمي. لكنه يلتزم الصمت وقد استوطنه الزهايمر اللعين. وينظر إلي أحيانا ويقول:"أنا لا أعرفك ولكنني أشعر بسعادة عارمة حين أراك. فلا تغيبي. فأنا أحبك."
لقد أصبحت أما يا أبي. وخبرت معاناتك وأدركت كم كابدت من مشاق وأنت تقوم بدور الأم والأب في آن.
ترى هل ستعود إليك الذاكرة ولو لثانية لتعرف أنني أسميت ابني أحمد تيمنا بإسمك الذي لم تعد تذكره؟
آه يا أبي كم أنا مذعورة من ذلك اليوم الذي لن أجدك فيه بانتظاري!
بقلمي منى البريكي/تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق