"الجرجار "
بقلم نصر العماري
اجهشت بالبكاء، وهوت عليه تقبّل قدميه ،فاسرع اليها يلتقطها ويُبعد قدميه عنها لاهجا:
استغر الله، استغفر الله يا عايشة ...
" يا سيدي الشّيخ جيتك وما تردنيش خايبه "
امسك بها الشيخ واجلسها وهو يُطمئنها :
ان شاء الله حاجتك مقضيّه.
كان وقورا ذا لحية بيضاء كثيفة،
يُمسك بمسبحة من العنبر ويرتدي "جبة سواكية اللون "
اما هي فقد كاد الزّمن ينال منها لكنّها مازلت امراة وسطا سمراء البشرة تظهر خصلات من شعرها الفاحم من تحت شالها الصّوفي .
كان ينظر اليها في تعجّب وكانت تنظر اليه في في رجاء،
ومالبثت ان رفعت صوتها منشدة :
"برّه وايجا يا الفارس ..
.يا الفارس ياه..
ما تردّ اخبار ع الجرجار..
يا عالم الاسرار صبري لله ."...
صرخ الشيخ في لهفة وتأوه
كيف ؟ كيف ؟ اوتعتقدين ذلك فيّ... استغفر الله... استغفر الله
يا عايشة ...
فاسرعت ووضعت كفيّها على ركبتيه وهوت تقبّلهما وهي تردّد:
إنّما جاهي بك كبير، وان لله رجالا...
وقد وعدتني، قُلتَ" حاجتك مقضيّه"...
اجابها الشيخ وهو يُحوقل :
لا حول ولا قوّة الا بالله ، انت تطلبين المستحيل.
- ابدا، لا مستحيل على الله ، انا امرأة ثكلى .. والله غنيّ على العالمين.
- ونعم بالله يا عايشة، ولكن طلبك لم يسبق اليه احد، عليك ان تصبري
وان تحتسبي ذلك عند الله ...
رفعت عائشة رأسها وهي تقول:
انت سيدي ، جدّي محرز ، حرز العليّ القدير الذي ادين له بالطّاعة والولاء . الكلّ يعلم ان لك كرمات، فلولاك لما كانت هذه المدينة الخضراء.
اجابها الشيخ وهو يمرّر حبات مسبحته بين اصابعه:
- لكنّك، تركبين الصّعب يا عائشة
كيف تريدن مني ان...
قطعت عليه قوله معتذرة تريد ان تهدِّئ من غضبه مستحلفة ايّاه بالله العظيم ان لا يغضب منها وان لا يطردها من فسيح كرمه وسعة صدره...
حوقل الشيخ محرز من جديد ورفع يديه يستغفر و يصلّي على النبيّ ويطلب لها الهداية والصّبر.
نظرت اليه عائشة والدّموع تنهمر من عينيها المتورّمتين .
- انما اطلبه ليس على الله بعزيز
- لكني ، يا عايشة ، انا عبد من عباد الله، انا الفقير الى ربه . ما حيلتي .
- بل تقدر و تستطيع، الم يقل تعالى:"الا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون."
فاسرع الشيخ قائلا:
- صدق الله العظيم ، صدق الله وجلّ في علاه ، ولكنّي اعرف قدري..
واضاف :
يا مسكينة ، انا لست عيسى عليه السلام او نبيا من انبياء الله ...
- ولكن العلماء ورثة الانبياء، وانت يا سيدي محرز اجل علماء هذه الأمة واكثرهم بركة.
- يا عائشة اتقي الله ودعي "الجرجار" وشأنه. دعيه ، انه ميت الآن دعيه يستريح.
صرخت عائشة وهي تولول :
وي ..وي.. سيدي ومولاي لا تقل ان الجرجار ميّت .. لا لا "الجرجار" لم يمت ...
هدأ الشيخ من روعها وناولها قدح الماء لتشرب قائلا؛
على رسلك انما هو حيّ، حيّ في دار الآخرة.
وصدق تعالى في محكم تنزيله حين قال" ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله امواتا بل احياء عند ربهم يرزقون".
قطعت عائشة شربها للماء وهي تكاد تموت عطشا من شدة النّحيب والبكاء لتسرع في القول :
هذا ما اريد هذا .. ما اريد .. وليس هذا على الله بعزيز .
فأجابها الشيخ بعد ان ناولته قدح الماء،وقد كادت تحتسي نصفه.
- دعيه بجوار ربه ينعم بالجنّة لماذا ترين عودته لهذه الدار الفانية؟ .
دقّقت عائشة النّظر في الشيخ ومدّت يديها لتسترجع القدح ، وقد شعرت برغبة كبيرة في شرب الماء من جديد
لعلّها تبرّد نار الشوق واللّوعة . فناولها سيدي محرز القدح ثانية ودعاها للجلوس، وقد كانت هبّت واقفة ، ففعلت وهي تردّد:
ابدًا ابدًا ، يا سيدي محرز ، لا بد ان تُعيد لي ولدي .. لا بد ان تعيد لي ولدي ...
وضعت عائشة يدها على خدّها واخذت تترنم منشدة و صوتها يرتجف من شدة التأثر:
برّه وإيجا ما ترد أخبار..
على الجرجار، يا عالم الأسرار،
صبري لله..
عييت نمثّل في وشامك،
حطو الرّميه فيك..
بين الكرومه والعنقر،
بعينينا احنا شُفنا.. وأحنا صُحنا،
اللّي غدرنا فيك ولد الحمدي..
واللي جرحنا فيك يجرح قلبه
يامة ضربوني.. يا حليلي يا آمه، والضّربة جاتني على القُصّة،
خلوني نبكي بالغصة..
لا إله إلا الله،
يا عالم الأسرار..صبري لله".
كان الشيخ يسترجع ذكريات هذا الشّاب الذي يُكنى الجرجار
شاب تحدى الاستعمار مع مجموعة من الاهالي حتى تم القبض عليه على اثر وشاية من احد القوّادة المطبعين مع قوّات الاحتلال.
التي نفذت فيه حكم الاعدام وقطعت راسه بالمقصلة التى انتصبت في ساحة باب سعدون ...
انفجر الشيخ صارخا :
كفي يا عائشة ...
فلم تفعل ولم يجد الشيخ امرا يسكت به هذه المسكينة .
وفجأة التفت نحو طشت نحاسيّ يستعمله للوضوء.. امسك به وهو يردّد :
ارايت هذا الوعاء .هذا الوعاء يا عائشة ... ان استطعتِ .. ان استطعتِ ...
نهضت عائشة مسرعة وامسكت بطرف جبّة الشيخ و هي تتفرس
في وجهه قائلة:
- استطيع استطيع .. .قل يا شيخ البركات، قل يا سيدي محرز ...قل ماتريد ...
- اسمعي يا عائشة، ان استطعتِ ان تملئي هذا الوعاء دموعا وتسبيحا عاد الجرجار اليك ...
ردّدها الشيخ اكثر من مرّة وجبينه ينضح عرقا ...
وكانت عائشة في كل مرة، تقول افعل افعل يا سيدي والشيخ يدقق النظر ويحملق فيها وكأنّه يحثها على قول او فعل شيء الى ان قالت:
افعل ان شاء الله
- افعل .. افعل يا سيدي محرز املؤه دموعا .
ساعتها سكت الشيخ وهدأ وسلّمها الطشت وجلس .. وهو يردّد:
ان شاء الله.. ان شاء الله يا عائشة دائما قولي ان شاء الله.
امسكت عائشة بالطبق النحاسيّ وقبّلته سائلة:
سيدي ، افعل ان شاء الله املؤه دموعا ولكن كيف املؤه تسبيحا؟
- يا سبحان الله، مع كل دمعة تنزل في الطبق، تقولين سبحان الله ... اتفهمين ... تملئين الوعاء ...
تناولت عائشة الطشت بشغف. وضعته في حجرها وامسكت به بكل حرص بكلتا يديها . ورفعت عقيرتها بالبكاء..
رفعت صوتها وشرعت في النّحيب ، و هي تستحضر في كل لحظة صورة الجرجار، منذ ولادتها له بل منذ حملها فيه، الى ان رأت جنود الاحتلال يحضرونه الى ساحة باب سعدون وكيف قطعوا قلبها مع راسه امام عينيها وامام زهاء الالف والنّصف من التونسيين...
لاحظت عائشة ان بكاءها جاف كعويل ريح عقيم . عصرت عينيها اغمضتهما وفتحتهما اكثر من مرّة، وضعت كفيّها عليهما مسحتهما ، اعادت الكرّة واعادت، تفرّست في راحتيها نظرت الى اصابعها ، انها جافة، مسحت الطّشت، لا شيء، لا اثر للبلل، تساءلت اين الدّموع؟ اين الدّموع ياربي..؟
هل نضبت الدّموع من رأسي؟ تساءلت ثانية كيف لها ان تملأ الطبق ؟ صرخت عائشة بأعلى صوتها صرخة مدوّية وجدت نفسها على اثرها في فراشها، على سريرها الخشبيّ في غرفتها الوحيدة، وحيدةَ كما كانت منذ رحيل الجرجار وعليها "عبانتها الصّوفية". المصباح مازال مشتعلا كما اشعلته عند المغرب.
هل كانت تحلم ؟ استغفرت وحوقلت...
انزلت ساقيها على حافة سريرها
ردّدت: هل كُنت احلم .. اين سيدي محرز ؟ ، والطشت ، اين الطشت؟
بحثت من حولها بحثت تحت الغطاء ، لكن لا شيء.
مدّت يدها لقمصان الماء، شربت اكثر من جرعة وهي تجول ببصرها في الغرفة، لا شي تغيّر .. عادت ورفعت رجليها وسحبت الغطاء عليها. ادركت انها كانت تحلم ...
فجأة سمعت طرقا خفيفا على الباب ، كذّبت اذنيها وحاولت ان تستدعي النوم فمن سيطرق بابها وقد مضى من الليل الكثير ؟ .
لكن الباب يُطرق من جديد بصوت مسموع ...
لم تجد عائشة بُدا من قول"
من؟.. من بالباب ؟"
امام الطرق المتواصل.
واذا بها تسمع
"انا ، انا ياامي افتحي، انا الجرجار".
هبت عائشة من فراشها قفزت واقفة؛
احسّت ان قلبها عاد اليها ؛ ودموعها عادت اليها؛ ضحكت؛ اسرعت نحو الباب ؛ همّت بفتحه لكنها توقفت ، تذكرت ان الجرجار مات وفُصلت راسه عن جسده ؛ لاحت لها صورة سيدي محرز كأنه يريد ان يقول لها شيئا، تذكرت الطشت؛ لكنّها لم تملأه دوعا او تسبحيا.
استغفرت ردّدت :انه حلم.. حلم .. لكنّها مؤمنة ان الله على كل شيء قدير و ان سيدي محرز صاحب بركات ... الطّرق مازال متواصلا . مدت عائشة يدها للمزلاج، ازاحته الى الوراء وفتحت الباب .
وقفت متخشبة في مكانها فاغرة الفم عيناها تكاد تخرجان من محجريهما ، وكاد لسانها ينعقد، لكنها تراجعت الى الخلف وهي تردد
: لا لا انت لست الجرجار ، لست ولدي ...
دققت النظر ،تأكدت ، تراجعت الى الخلف اكثر ،صرخت : عرفتك..
انت "ولد الحمدي" ... نعم" انت ولد الحمدي "...
انتهت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق