السبت، 26 أكتوبر 2024

قصّة قصيرة بقلم الأستاذ كمال العرفاوي

 (قصّة قصيرة بقلم الأستاذ كمال العرفاوي) 

*تحت وابل من الرّصاص*

صاح ياسين بأعلى صوته :"اللّه أكبر، اللّه أكبر، وللّه الحمد" 

، وهو يجري ويقفز عاليا في فخر واعتزاز، يكاد يطير من شدّة الفرح والبهجة كنسر قويٍّ يحلّق في الفضاء الرّحب مفتخرا بفريسته الثمينة الّتي غنمها بعد متابعة طويلة ورصد دقيق، وهو يرى دبابة الميركافا الشّهيرة تحترق بمن فيها من جنود العدوّ الصّهيوني الغاشم، بعد أن وضع في مؤخّرتها عبوة شواظ شديدة الانفجار، وأسرع لمغادرة المكان كي لا يُصاب بشظاياها القاتلة. كان ياسين في قمّة السّعادة والانبساط وهو يتابع تصاعد النيران الحمراء الملتهبة، والدخان الأسود الكثيف من جسم الدّبابة العظيمة، ويزيد انتشاءً بسماع صراخ جنود العدوّ المغتصب وهم يتألّمون وسط اللّهب الحارق، ويطلبون النجدة دون جدوى، حتّى خفتت أصواتهم شيئا فشيئا، ثمّ كُتِمت نهائيا...

في لحظة انتشاء غادرة، سها ياسين ونسي توصيات قائده 

أبي خالد بالعودة مباشرة إلى النّفق بعد إنجاز مهمّته، فبقي متسمّرا في مكانه الّذي لا يبعد أكثر من خمسين مترا عن الدّبّابة المُحتَرَقة وهو في قمّة نشوة الانتقام، فسبحت به ذاكرته النّشطة في بحر أسودَ من الذّكريات الأليمة حين عادت به سبع سنوات إلى الوراء ليتذكّر الأيّام العصيبة الّتي عاشها صحبة والديه وأخته سلمى الّتي كانت تصغره بثلاث سنوات، لمّا كان شابّا في ربيعه الثاني والعشرين. كانت أصوات أزيز الطّائرات المجرمة تصمّ آذانهم، وكانت أصوات القنابل تبعث في نفوسهم الرعب والفزع والجزع، فيحتمي الجميع بأحضان بعضهم البعض، وفرائصهم ترتعد خوفا وهلعا...

مرّت الدّقائق ثقيلة مخيفة، والطّائرات تستهدف منازل

الآمنين بقنابلها المُرعبة، وفجأة دوّى انفجار كبير تهاوى له سقف المنزل الّذي يأويهم، وتدمّرت جدرانه الّتي تحميهم، فغاب عن الوعي ولم يستفق إلّا بعد سبعة أيّام على صوت طبيبه الّذي كان يعالجه وهو يقول له:

_ الحمد للّه على سلامتك يا بني. بماذا تشعر الآن؟ 

فأجابه ياسين بصوت خافت متقطّع:

_ يدي اليسرى دكتور، تؤلمني جدّا، وأشعر أيضا ببعض الدّوار. 

فطمأنه الطّبيب مبتسما:

_ لا عليك يا بنيّ، لقد تجاوزت مرحلة الخطر، ستتماثل للشّفاء بعد بضعة أسابيع من العلاج المنتظم، وستعود إلى نشاطك الطّبيعيّ بعد ثلاثة أو أربعة  أشهر على أقصى تقدير بإذن اللّه تعالى. 

فرح ياسين وقال ممتنّا:

_  شكرا جزيلا دكتور، حفظك اللّه ورعاك. 

خرج الطّبيب من غرفة العناية المركّزة الّتي يرقد فيها ياسين، 

بعد أن طمأنه على صحّته وترك بجانبه ممرّضة شابّة للعناية به.  وقد علم منها ياسين لاحقا بأنّه فقد والديه وأخته في تلك الغارة المشؤومة، وقد نجا هو بأعجوبة بعد أن تمّ إخراجه بصعوبة من تحت ركام منزلهم. لم يتمالك ياسين نفسه عن البكاء والنّحيب، فسالت دموعه الحارّة على وجنتيه مدرارا حزنا على فقدان كامل أفراد عائلته، فخفّفت من حرقته الممرّضة فاطمة، وواسته بكلمات طيّبة لطيفة تبعث على الصّبر والاحتساب، فنزلت عليه عباراتها بردا وسلاما، فهدأ قليلا ولكنّه لم ينسَ ولن ينسى أبدا هذه الحادثة الأليمة بعد أن عقد العزم على الثّأر لأسرته أوّلا، ولوطنه الحبيب ثانيا...

أُعجِبَ ياسين بالممرّضة فاطمة الّتي خصّته بعناية 

مميّزة، وزاد إعجابه بها بعد أن لاحظ حسن سلوكها، ودماثة أخلاقها، وأُعجِبت هي أيضا به وبادلته نفس الشّعور، فتوطّدت العلاقة بينهما بمرور الأيّام والأشهر حتّى تزوّجا على سُنّة اللّه ورسوله وأنجبا بنتا جميلة سمّياها رجاء، وعاشوا جميعا في سعادة وهناء... 

ذات يوم قرّر ياسين الانضمام لكتائب المقاومة الإسلامية حماس بعد أن اقتنع تمام الاقتناع بأنّ ما سُلِب بالقوّة لا يُستَرَدُّ إلّا بالقوّة، وأنّ الحرّية لا يمكن التّمتّع بها إلّا بعد استرجاع كامل الأراضي الفلسطينية المحتَلّة وعلى رأسها القدس الشّريف، فأخبر زوجته فاطمة الّتي رحّبت بالفكرة، وشجّعته عليها رغم علمها المسبق بمخاطرها، وذلك لأنّ العدوّ الغاشم واصل غطرسته وعدوانه وانتهاكاته المتكرّرة والمتعمّدة لحقوق الفلسطينيين، وقد تجاوزت اعتداءاته حدّا لا يُطاق لتصل إلى مرحلة تدنيس المسجد الأقصى، وهو الخطّ الأحمر الْذي لا يمكن لأيّ فلسطينيّ حُرًّ أو مسلم  أن يسكت عنه... 

  بعد اختبارات ذهنية وبدنية عديدة، وقع اختيار ياسين 

ليكون عنصرا من عناصر وحدة النّخبة لحماس بجنوب خان يونس، فشارك في عديد الدّورات التّكوينية والتّدريبية على مختلف الأسلحة، وقد أظهر مهارة عالية في الرّماية بجميع أنواع الأسلحة من مسافات مختلفة، ولياقة بدنيّة ممتازة، وذكاء حادّا وقّادا، فكسب ثقة قادته العسكريّين... 

استفاق ياسين من غفوته على صوت قائده أبي خالد

وهو يستحثّه على مغادرة المكان للعودة إلى النّفق الّذي انطلق منه لمهاجمة العدوّ، وفجأة شعر بألم في صدره، وبحرارة سائل الحياة الأحمر الّذي سال بغزارة من جرحه الغائر بصدره، بعد أن أُصيب برصاصة غادرة من بندقية أحد الجنود الصّّهاينة الّذين جاؤوا متأخّرين لنجدة زملائهم المحترقين داخل الدّبّابة... 

لم يقوَ ياسين على النّهوض، فطلب النّجدة من قائده الّذي

طلب من بقية أفراد المجموعة أن يقوموا بإطلاق نار كثيف نحو الأعداء للتّغطية على عملية نجدة ياسين. وما هي إلّا لحظات حتّى انطلق القائد الشّجاع كالسّهم نحو الهدف غير مُبال برصاص العدوّ. ولمّا وصل إلى ياسين وجده فاقدا لوعيه، رافعا سبّابته نحو السّماء، فحمله على ظهره وانسحب به تحت وابل من الرّصاص المتبادل بين المقاومين والجنود الصّهاينة، وأسرع به نحو فتحة النّفق. ولمّا وصل سلّم ياسين لعمّار وياسر اللّذين أدخلاه إلى النّفق، وواصل القائد الشّجاع قتاله للعدوّ مع بقيّة أفراد مجموعته حتّى أوقعوهم جميعا بين قتيل وجريح. ثمّ انسحب مع زملائه الّذين سبقوه للدّخول إلى النّفق، وفجأة حدث ما لم يكن متوقّعا.. لقد أصيب القائد أبو خالد برصاصة لعينة اخترقت ظهره وصدره، فسقط على الأرض متألّما. تحامل القائد الشّجاع على نفسه وسجد سجدة شكر للّه، ثمّ غاب عن الوعي وخمدت حركته...

بعد أسبوع من هذه العملية الفدائية الجريئة، فتح ياسين 

عينيه بعد أن نجا للمرّة الثّانية من موت مُحَقَّق، وأجال بصره في أرجاء غرفة العناية المُركّزة، وكم كانت فرحته عظيمة حين شاهد زوجته الحبيبة فاطمة منتصبة أمامه والابتسامة تعلو مُحيّاها! وقبل أن يسألها أشارت إلى السّرير المُجانب له، فرأى القائد أبا خالد مُمَدَّدا عليه، وهو يبتسم و يرمقه بنظرة فخر مشوبة بالعتاب، وقد رفع شارة النّصر عاليا ولسان حاله يقول:  لن نهدأ، ولن يُغمَض لنا جفن، ولن نُلقِي السّلاح إلّا بعد قيام الدّولة الفلسطينيّة الكاملة السّيادة على كلّ شبر من أراضينا المُحتَلَّة وعاصمتها القدس الشّريف... 

كمال العرفاوي

تونس



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق